سر ألوان الفراشة

في ظل تطوّر العلوم و النظريات، كان لا بد لكل جزء من هذا الكون أن يتخذ تطبيقاً واقعياً لهذه النظريات المتطورة والأبحاث المستمرة، حتى أصغر الكائنات وألطفها، فموضوع اليوم يبحث في سؤال طالما راودنا ولم نستطع تحليل إجابة له؛ فكل شيء في هذا الكون حدث بسبب ولسبب، ويستحيل أن تكون مكونات أي من الكائنات الحية قد خلقت بالصدفة بل قد خلقت من قبل خالق لا حدود لعلمه وقدرته وهو الله سبحانه و تعالى. لذا يا ترى ما السر وراء تلوّن ألوان الفراشات و كيف يمكن لهذا الكائن الصغير أن يحدد آلاف الألوان لنفسه منها ما يسرّ النظر ويمتعه، ومنها من عجز الفنانين عن تشكيله؟ تتميز ألوان أجنحة الفراشات عن ألوان أجسام بقية أنواع الكائنات الحية بنباتاتها وحيواناتها بعدّة ميزات؛ أولها العدد الهائل للألوان المختلفة التي تظهر على أجنحة مختلف أنواع الفراشات بحيث يعجز البشر على إطلاق أسماء على هذه الألوان. أما ثانيها فهو وجود عدد كبير من الألوان المختلفة على جناح الفراشة الواحدة وهي مرسومة على شكل لوحات فنية عجيبة يعجز أعظم رسامي البشر من تقليدها؛ خاصة أنها مرسومة على لوحات بالغة الصغر إذا ما قورنت بلوحات أولئك الرسامين! ثالث هذه الميزات فهي أن ألوان أجنحة معظم أنواع الفراشات تتغير مع تغير زاوية نظر مشاهدها وأن لها بريق لا يوجد في ألوان الأشياء الأخرى. الميزة الأخيرة وهي المسؤولة عن الميزات السابقة، فهي أن الطريقة التي تتولد من خلالها ألوان الفراشات تختلف تماماً عن تلك المستخدمة في بقية أنواع الكائنات الحية وكذلك الجمادات! ففي هذه الطريقة يتم استخدام تقنيات بالغة التعقيد تعتمد على ظواهر فيزيائية متعددة للحصول على هذا التنوع الهائل في ألوان أجنحة الفراشات. إن هذه التقنيات تحتاج إلى تصاميم بالغة الدقة لبنى هندسية تقاس أبعادها بوحدات النانومتر أو ما يسميه العلماء اليوم بتقنية النانو (Nanotechnology)، فالألوان في هذه الطريقة يتم الحصول عليها من خلال عدة آليات يلزمها وجود بنى هندسية معينة على سطح الجناح بأشكال وأبعاد محددة وهذه البنى الهندسية ذات أبعاد بالغة الصغر تقاس بالنانومتر. الآلية الأولى تعتمد على وجود ما يسمى بالفلم الرقيق (Thin film) وهو عبارة عن طبقة رقيقة أو غشاء رقيق من مادة شفافة للضوء يتم وضعها فوق قاعدة من مادة أخرى، وعندما يسقط الضوء على هذا الفلم فإن بعضه ينعكس عند سطحه الخارجي وبعضه ينعكس عند الحد الفاصل بينه وبين القاعدة وعند تداخل هاتين الموجتين المنعكستين فإنهما إما يقويان بعضهما فتزداد شدة الضوء المنعكس (تداخل بنّاء) أو يضعفان بعضهما فتقل شدة الضوء (تداخل هدّام). إن طبيعة التداخل من حيث كونه بنّاءً أو هدّاماً يعتمد على طول موجة الضوء وسماكة الفلم وزاوية سقوط الضوء، وعليه فإنه يمكن اختيار سمك الفلم بحيث يعكس لوناً محدداً دون بقية الألوان؛ فالألوان في هذه الطريقة يتم الحصول عليها من خلال عدة آليات يلزمها وجود بنى هندسية معينة على سطح الجناح بأشكال وأبعاد محددة، وهذه البنى الهندسية ذات أبعاد بالغة الصغر تقاس بالنانومتر. الآلية الثانية تعتمد على ما يسمى بمحززات الحيود (Diffraction Gratings) والتي تمثّل نتوءات أو أخاديد تعمل على سطح المادة على شكل حزوز متوازية وعندما يسقط الضوء عليها فإنه ينعكس بزوايا مختلفة وذلك حسب طول الموجات المكونة لهذا الضوء؛ أي أنها تعمل عمل المنشور الذي يقوم بتحليل الضوء الأبيض إلى ألوان الطيف المختلفة. وعليه فإن تصميم أبعاد البنى الهندسية الموجودة على الأجنحة عملية في غاية الصعوبة وأعتقد أن البشر سيقفون عاجزين عن تقليدها مهما بلغ التطور في تقنيات تصنيع الإلكترونيات وتقنيات النانو! إن عملية تصنيع أجنحة الفراشات وما عليها من بنى هندسية تتم تحت سيطرة شيفرات الحامض النووي الموجود في خلايا الفراشة فكل حرشفة من هذه الحراشف هي عبارة عن خلية حية واحدة يتم فردها على سطح الجناح وتتشكل هذه الخلية لتنتج أشكال البنى المطلوبة. وفي السنوات الأخيرة بدأ العلماء العمل على الاستفادة من التقنيات الضوئية المستخدمة في الفراشات في تطبيقات لا حصر لها كالحصول على ألوان للسيارات بدون استخدام الطلاء وكاستخدامها في مكونات الاتصالات الضوئية.